الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي مقول فيها ما رأيت.والثاني: أن لا نافية، والجملةُ صفة لـ {فِتْنَةٌ} وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يجري المنفيُ بـ لا مجرى النَّهي؟ فقال بعضهم: نعم؛ واستشهد بقوله: [الطويل] وقال الآخر: [الطويل] فإذا جاز أن يُؤكد المنفيُّ بـ لا مع انفصاله، فلأن يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصول بطريق الأولى إلاَّ أنَّ الجمهور يحملون ذلك على الضرورة.وزعم الفرَّاءُ أنَّ: {لا تُصِيبَنَّ} جواب للأمر نحو: انزلْ عن الدَّابة لا تَطْرَحَنَّكَ، أي: إن تنزل عنها لا تَطْرَحنك، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] أي: إن تدخلوا لا يَحْطِمنَّكُم، فدخلت النُّونُ لِما فيه من معنى الجزاء.قال أبو حيان.وقوله: {لا يحطمنَّكُم} وهذا المثالُ، ليس نظير {فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين}؛ لأنه ينتظم من المثالِ والآيةِ شرطٌ وجزاءٌ كما قدَّر، ولا ينتظمُ ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إن تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى.قال الزمخشري: {لا تُصِيبَنَّ} لا يخلو إمَّا أن يكون جوابًا للأمر، أو نهيًا بعد أمرٍ، أو صفة لـ {فِتْنَةً} فإن كان جوابًا فالمعنى: إن أصابتكُم لا تُصيب الظَّالمين منكم خاصة بل تَعُمُّكُم.قال أبو حيان وأخذ الزمخشريُّ قول الفرَّاءِ، وزاده فسادًا وخبَّط فيه فذكر ما نقلته عنه ثم قال: فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جوابًا للأمر الذي هو: {اتَّقُوا} ثمَّ قدَّر أداة الشطرِ داخلةً على غير مضارع {اتقُوا}؟ فقال المعنى: إن أصابتكُم يعني: الفتنة.وانظر كيف قدَّر الفرَّاءُ، انزل عن الدَّابَّةِ لا تَطْرَحَنَّكَ، وفي قوله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] فأدخل أداة الشَّرط على مضارع فعل الأمر، وهكذا يُقدَّر ما كان جوابًا للأمر.وقيل: {لا تُصِيبَنَّ} جوابُ قسم محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لـ {فِتْنَةً} أي: فتنة واللَّه لا تُصيبنَّ، ودخولُ النُّون أيضًا قليلٌ، لأنه منفيٌّ.وقال أبُو البقاءِ ودخلتِ النُّونُ على المنفي في غير القسم على الشُّذُوذِ وظاهرُ هذا أنَّهُ إذا كان النَّفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النُّونِ، وليس كذلك، وقيل: إنَّ اللام لامُ التَّوكيد والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنَّما أشبعتْ فتحةُ اللاَّمِ؛ فتولَّدت ألفًا، فدخول النُّون فيها قياسٌ، وتأثر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة {لتُصِيبنَّ} وهي قراءة أمير المؤمنين، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبي العالية، وابن جماز.وممَّن وجَّه ذلك ابنُ جني، والعجبُ أنه وجَّه هذه القراءة الشَّاذَّة بتوجيهٍ يَرُدُّهَا إلى قراءةِ العامَّة، فقال: يجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود، ومن ذكر معه مخففةً من لا يعني حذفت ألفُ لا تخفيفًا واكتفي بالحركة.قال: كما قالوا: أم واللَّه، يريدون: أما واللَّهِ.قال المهدويُّ كما حذفت مِنْ ما وهي أخت لا في نحو: أم والله لأفعلنَّ وشبهه.قوله أخت لا ليس كذلك؛ لأنَّ أما هذه للاستفتاح، كـ ألاَ، وليست من النَّافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أنَّ ابن جني خرَّج كلًا من القراءتين على الأخرى.وهذا لا ينبغي أن يجوز ألبتَّة، كيف يُوجدُ لفظ نفي، ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسه؟ وهذا ممَّا يقلب الحقائق، ويُؤدِّي إلى التَّعمية.وقال المبرِّدُ، والفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ: في قراءة العامَّة لا تُصِيبنَّ الكلام قد تمَّ عند قوله: {فِتْنَةً} وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة، والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة.قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه: وإذا كانت نهيًا بعد أمرٍ؛ فكأنه قيل: واحذروا ذنبًا أو عقابًا.ثم قيل: لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة.وقال عليُّ بن سليمان: هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ، وإنَّما جعله نهيًا بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي بـ لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ، فصار التقدير: لا أصابت ظالمًا ولا غير ظالم فكأنَّه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ.وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال: النَّهْي بتقديريه، والدُّعاء بتقديريه، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول.قوله: {مِنكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ:أظهرها: أنَّها للبيان مطلقًا، والثاني: أنَّها حالٌ، فيتعلَّقُ بمحذوف.وجعلها الزمخشريُّ: للتبعيض على تقدير، وللبيان على تقدير آخر، فقال فإن قلت: فما معنى مِنْ في قوله: {الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ}؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ، والبيان على الثاني؛ لأنَّ المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ يعني بالأولِ كونه جوابًا للأمر، وبالثاني كونه نهيًا بعد أمرٍ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر، وكذا الثاني: نظرٌ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان.قوله: {خَاصَّةً} فيه ثلاثة أوجهٍ:أظهرها: أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله: {لا تُصيبَنَّ} وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: إصابةً خاصة.الثاني: أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ، تقديره: لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة، بل تعمُّهم، وتعمُّ غيرهم.الثالث: أنها حالٌ من فاعل {ظَلَمُوا} قاله ابن عطية.قال أبو حيان: ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ.قال شهابُ الدِّين: ولا أدري ما عدمُ تعقُّله؟ فإنَّ المعنى: واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا، ولا يظلم غيرهم، بمعنى: أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ، ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء، بل تصبهم، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة، وهذا معنى واضح. اهـ.
وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة.والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظٌّ له، نَظَرَ إليه المريدُ، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف.وفي الجملة إذا غفل المَلِكُ، وتَشَاغَل عن سياسة رعيته تَعَطَّلَ الجندُ والرعية، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة، وفي معناه أنشدوا: {اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} بتعجيله ذلك، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبدًا ليُعَاقِبَه لا يُمَكِّنه من تلافي موجب تلك العقوبة. اهـ.
|